لا يأتي طرح هذا الموضوع من باب نزهة كلامية، أو ترف فكري حيادي. بل أهدف من خلاله إلى إثارة تفكير وحوار حول ما يطلق عليه ” عيد الميلاد”. والذي تثار حوله، في المجتمعات الإسلامية، عدة إشكالات تتعلق بفتاوى دينية تخص الجواز أو التحريم ، وأحيانا تصل حد تكفير من يعتقد به. والغريب أن البعض من المسلمين يحرمونه، مع أنهم يتمتعون بالتعطيل عن العمل فيه، مع أخذ أجرة هذا اليوم. وهذا تناقض حاد، ولكنه ليس غريبا عن إنسان مجتمع اعتاد أن يعتاش على أفكار يجهل مصدرها، ويطلق أحكاما لا يدرك مخرجاتها، [ بدون تعميم]، وهذا هدفي الأول. أما هدفي الثاني فيتعلق بالتعريف بهذا اليوم وعلاقته بوضعيات تاريخية تأسست على كذبة، وتعيش بيننا في القرن الواحد والعشرين. فالمسألة تتجاوز كونها يوم احتفال وعطلة، فهي لها جذور تاريخية تبدأ من القرون الميلادية الأولى وتستمر إلى اليوم.
لكن، ماذا جرى ؟ ولماذا؟ وكيف؟
إن فكرة “عيد الميلاد” وجدت مع ميلاد أول تقارب نفعي بين إمبراطورية الروم والديانة المسيحية، كما سنرى لاحقا. وسأبدأ بالحديث عن بعض نتائج هذا البعبع الذي كان سببا في دخول أوروبا ومعها بعض الشرق في غياهب ظلام ديني، ومناطق ظلال تاريخية، تسترت عن أحداث خطيرة يتحاشى الغربيون ذكرها، ولو أنها ضمن مناهج دراسية جامعية عندها، وذلك من قبيل محاكم التفتيش، ومجازر شعب الهنود الحمر. وتعتبر من أخطر المراحل التاريخية التي صاغت أوروبا المسيحية والعالم المسيحي ما قبل النهضة الأوروبية، مرحلة مميزة جدا في فصول التحريف وطغيان الكنيسة وتشويه المسيحية، وهي التي صاغت أيضا ما يطلق عليه ” العصر الوسيط”
ومفهوم العصر الوسيط يدور حول زمن يفصل بين عصر الحضارة العقلانية اليونانية والرومانية، وبين عصر الحداثة. ويقسم الباحثون العصور الوسطى إلى قسمين : ” هناك العصور الوسطى الواطئة والعصور الوسطى العالية، أو العصور الوسطى البعيدة والعصور الوسطى القريبة. فالأولى استمرت منذ القرن الخامس بعد الميلاد إلى القرن العاشر أو الحادي عشر، وهي الأكبر إظلاما وفقرا من الناحية العلمية والفكرية، واما الثانية فقد استمرت منذ القرن الثاني عشر ( تاريخ النهضة الأوروبية الأولى ) واستمرت حتى القرن الخامس عشر أو السادس عشر ( تاريخ النهضة الأوروبية الحقيقية ).” ( ).
إذا كان ما سبق من الكلام يُبين بعض نتائج ميلاد “يوم الكريسمس”، فإن الغاية في هذا الباب، هي إبراز العلاقة التي جمعت المسيحية بالسياسة في ذلك الزمن. وما نتج عن ذلك من صياغة حقبة تاريخية لا تشرف المسيحية كدين، وليس لها من تاريخ سوى صناعة الظلم والظلام.
فمن المعروف أن المسيحية وأتباع المسيح تعرضوا لأهوال من العذاب من قبل أباطرة الروم و المتواطئين معهم من اليهود، قبل هذا اليوم ( يوم الكريسمس). ولما شاءت الأقدار أن يتغير الحال بات أولئك الحكام بحاجة إلى الدين المسيحي، رغم أن الحرب الرومانية الوثنية على الديانة المسيحية استمرت حوالي ( 300 سنة ).
كيف ولد ” الكريسمس”:
طوال ثلاثة قرون من الزمن، وأتباع المسيح كانوا يمارسون دينهم في الخفاء، إلى أن تولى قسطنطين ألأكبر مقاليد الحكم عام ( 312م ) ليصبح بعد ذلك قيصرا للروم. وهاهنا بدأت نقطة التحول في تاريخ الديانة المسيحية. لكن كيف؟
تبدأ المسألة بعدما نشب خلاف بين ’’قسطنطين‘‘ وأخيه ’’ماكسينتوس‘‘ حول من يستلم الحكم بعد موت أبيهما الإمبراطور، وكانت الحرب قد شارفت على أن تقوم بينهما. وحينها كان قسطنطين يعرف جيدا بأن جيشه سيكون أقل عددا، فحضرت لديه فكرة غريبة ! وهي أن يعترف بالمسيحيين من شعبه ليشاركوا معه في صفوفه أثناء المعركة. فجمع المسيحيين وخاطبهم قائلا بإنه، وحين كان يصلي لإله الشمس، ’’سول‘‘ من أجل مساعدته في المعركة القادمة تفاجأ بظهور صورة المسيح أمامه بجانب إله الشمس، فقال له إله الشمس ، “بهذا الرمز ستنتصر” ! . وطبعا هذا كله كذب ولكنه دهاء سياسي، وبالفعل شارك المسيحيون في المعركة وأمَرَهُم قسطنطين بأن يضعوا شعار الصليب على دروعهم، وكانت هذه المرة الأولى التي يعتمد فيها الصليب كرمز للمسيحية.
وبعد زحف الجيشين التقيا عند جسر مَلْفيا شمال روما، وهناك دارت المعركة التي انتصر فيها قسطنطين انتصارا ساحقا. وكان ذلك يوم الأحد 25 دجنبر 312م
بعد ذلك أخذ المسيحيون حقوقهم في التدين علنا وخرجوا من قوقعة الخفاء. ونتج عن ذلك النجاح العسكري لقسطنطين، أن أمر بدمج الديانتين ( الوثنية والسماوية المسيحية)، فجاء اليوم المقدس للمسيحيين هو يوم الأحد وهو اليوم الذي كان مقدسا لعبادة الشمس سابقا، وكان هذا سببا في تسميته ’’ DAY ـ SUN ‘‘ [ سان داي ] أو يوم الشمس. وكان قسطنطين يرنو إلى خلق تقارب بين إله الشمس ’’ سول ‘‘ والمسيح، في صفاتهما فأعطى للمسيح لقب ’’ شمس الحق ‘‘، ومنحه نفس تاريخ مولد إله الشمس ( 25 ديسمبر)، وهو يوم انتصاره على أخيه في معركة مالفيا، والذي يعرف اليوم ب ’’ الكريسميس‘‘، هو بلا شك تاريخ مكذوب لميلاد المسيح ، لأن ميلاد هذا الأخير كان أواخر فصل الرصيف، تبعا لما ورد في الكتب السماوية.
وبناء على ذلك يعتبر قسطنطين هو المؤسس الحقيقي للديانة المسيحية بشكلها الحالي، رغم أنه كان وثنيا حينذاك، وهو من يرجع إليه تأسيس ” يوم الكريسمس”، وهو من اتخذ من الصليب شعارا في حروب أهل الصليب، وهو أيضا، من جعل يوم الأحد مقدسا، وهو الذي أمر ببناء أول كنيسة عام 324 م في الفاتكان !ليوحد بذلك الدين المسيحي ببصمته السياسية، ( )، وهو أيضا من دافع عن ” عقيدة التثليث” في أول مجمع مسكوني في نيقية 20 مايو 325م.
كان من نتائج اندماج المسيحية مع السياسة إصدار “مرسوم ميلانو” في نفس السنة ليعلن فيه قسطنطين الأكبر اعتبار ” المسيحية” دينا رسميا للإمبراطورية الرومانية. وكان دمج المسيحية بالسياسة أخطر منزلق هَوَتْ فيه أوروبا المسيحية، لأنه سيسير بها إلى مستنقع التدخل البشري في صناعة الدين من جهة، ومن جهة أخرى سيدخل الدين في خوصصة حاكمية يعمل الحكام من خلالها على إعادة صياغة الدين المسيحي بما يناسب وضعهم السياسي لتحقيق مآربهم.
من بين النتائج الكارثية التي أنتجتها العلاقة الجدلية بين الدين المسيحي وسياسة الإمبراطورية الرومانية أيضا، هي تبني فكرة “بولس” التحريفية التي أصابت الدين المسيحي في جوهره ( العقيدة)، فتحول الإله إلى الأب الذي له ابن، وتحول الأبن إلى إله، وبينهما روح القدس، وهو أقنوم خاص يطلق عليه في الوقت نفسه “روح الأب” و” وروح يسوع”. وهي أقانيم ثلاث ( أي الله واحد في ثلاثة أقانيم ). وعقيدة الثالوث تم تبنيها لأول مرة من قبل المسيحيين الذين أخذوا دروسهم عن رجل يهودي يدعى ” شاول بولس” ( 5ــ67 م) والذي أطلق عليه ” بولس الرسول” فيما بعد. والأصل في المسألة تلخصه العلاقة الجدلية التي تربط الدين السماوي بالسياسة، فأفكار بولس ترتبط أساسا بالسياسة الرومانية التي تعتمد الدين الوثني ايديولوجية لها.
بعد صدور مرسوم ميلانو سنة313م، وأصبحت المسيحة دينا رسميا للإمبراطورية الرومانية، دعا قسطنطين إلى عقد أول مجمع مسكوني( ) في نيقية، والذي سيكون اساسا للمجامع المسكونة الأخرى.
هكذا تتصرف الجدلية القائمة بين الدين والسياسة، بين الكنيسة والسلطة، والتي لم تكن علاقة تآلف وثقة، بل كانت علاقة مصالح. وذلك التوافق بين الأباطرة والكنيسة لم يحسب فيه حساب للجماهير الشعبية التي كانت تئن تحت رحمة كل من الإمبراطور والكنيسة. ومن هنا بدأ المجتمع المسيحي يغوص في وحل من التخلف والخضوع لأهواء رجال الدين، وزاد هؤلاء في تثبيت سلطتهم بل وتقويتها رويدا رويدا، وأتى بعد ذلك حصول الكنيسة على السلطة المطلقة وخاصة منها ما يتعلق بالعلاقات الاجتماعية والاقتصادية وحتى السياسية، إذ ستصبح هي من يضع التاج فوق رؤوس ملوك تختارهم الكنيسة نفسها.
ذلك كان حديث حول ميلاد يوم ” الكريسمس”، وما نتج عنه من اندماج الديني مع السياسي، هذا الذي أدي بدوره إلى إسقاط الغرب المسيحي في وحل الظلام لمدة تزيد عن عشرة قرون. والعالم اليوم يقدس هذه الكذبة، بل وتم إدخالها ضمن حيثيات نشاطه الاجتماعي السنوي الذي يصادف أياما شتوية قاسية.
مقال رأي للأستاذ مرزوق الحقوني