توطئة خاطفة:
لا مراء أن مشروع المشاركة السياسية المباشرة لدى مكونات الحركة الأمازيغية، لم يتبلور مع ميلاد تحربة جبهة العمل الأمازيغي قبل حوالي ثلاث سنوات، بل هو مشروع تعود ارهاصاته الأولى لقرابة عقدين من الزمن، وعلى طول هذه المسافة الزمنية تم انتاج تراكم نظري وفكري كبير توج بتأسيس حزب PDAM سنة 2007 ليتم وأده بقرار لاحق لوزارة الداخلية بعلة مخالفة المادة الرابعة من القانون التنظيمي المتعلق بالأحزاب السياسية.
هذا القرار، وإن كان يبدو مغلفا بالنص القانوني، الا أن جوهره يحيل وسياق اصداره الى توجه وقناعة سيادية للدولة أملتها اعتبارات جيوستراتيجية، واخرى مرتبطة بضبط التوازنات الداخلية، وبالخصوص التحكم في ايقاع التدافعات السياسية والحزبية، في سياق إمتاز بإنهيار وإفلاس الاطروحات النظرية السائدة داخل النسق المؤسساتي، في المقابل رغبة الدولة في الاحتفاظ بورقة “الأمازيغية” كـ “جوكر” ينفس عن أزمات ورجات اجتماعية محتملة، وهو ما تم بالفعل إبان انفجار الربيع الديمقراطي مغاربيا وعربيا، بحيث بدأت الدولة في تغيير اختياراتها الهوياتية بالسماح لأصوات رسمية بإسماع اصواتها المنادية بالقطع مع التبعية للشرق- ومسار العلاقات بين المغرب ودول المشرق العربي خلال العقد الأخير يوضح بجلاء حجم التمفصل الحاصل- والعمل على التأسيس لمنوذج قومي موري/مغربي يغطي المجالات الدينية والثقافية والسوسيواقتصادية، بالموازاة مع تبني سياسة خارجية جديدة تقوم على مبدأ براكماتي مؤسس على ” المصالح تبرر الاصطفافات”، ولعل اعادة فتح العلاقات مع دولة اسرائيل خير دليل على جدية هذا التوجه السيادي الجديد.
أي دور للحركة الأمازيغية في خضم هذا التمفصل/ التحول؟
معلوم ان الحركة الأمازيغية منذ نشأتها تبنت مواقف متمايزة عن باقي الاطارات السياسية، سواء اليسارية أو المحافظة، حيال قضية الصحراء والقضية الفلسطينية، بحيث زاحمت بعض السرديات اليسارية المدافعة عن مبدأ تقرير المصير، بمبدأ أسمى يجد اساسه في بعدين، الأول انتروبولوجي/تاريخي يستحضر الانتماء لهوية وتاريخ مشترك، والثاني سياسي/اديولوجي يرفض قيام اي كيان اقصائي/ عنصري داخل المجال الهوياتي لشمال افريقيا.
فعلى مستوى التدبير المواقفي إزاء القضية الفلسطينية، لم تنجر مكونات الحركة الأمازيغية- باعتبارها حركة تصحيحية- نحو معانقة الموقف الكلاسيكي والفهم الجاهز للصراع الفلسطيني-الاسرائيلي، ولم ترفع شعار “وطنية القضية الفلسطينية” على حساب او بالموازاة مع قضايا الوطن الفعلية، بل أسست لموقف “انساني” منطلقه التضامن مع شعب يتعرض للإضطهاد داخل وطنه.
هذان التصوران حيال قضيتين، هي من صميم سيادة الدولة الداخلية والخارجية، جعلت من الحركة الأمازيغية على مستوى الخطاب، تسير بإيقاع أسرع من إيقاعات الدولة التي تكبلها الاعتبارات المرتبطة بموازين القوى عالميا، وأمام التمفصل الجديد في توجهات الدولة، وأمام احتفاظ باقي الإطارات السياسية داخليا بمواقفها، والتي أبانت عنها بجلاء بعد إعلان اعادة استئناف العلاقات مع دولة اسرائيل، وجدت الدولة نفسها مكرهة لفتح المجال أمام الحركة الأمازيغية ولو بشكل حذر، على قاعدة: “الصراع هو مجال لتقاسم الغنائم”.
في هذا السياق، الذي سبقته خطوات تحضيرية، ولد إطار “جبهة العمل الأمازيغي” كتجربة، تسعى لخلخة التصوات الكلاسيكية الثابتة داخل النسق السياسي، وقد ساعدها السياق أعلاه للاشتغال مؤسساتيا حتى دون أن تمتلك الأداة التنظيمية القانونية، والدولة تغاضت عن هذه المسألة لما للمبادرة من أهمية لها ولمشروع الفاعلين فيها. غير أن ما يثير التساؤل هو مدى استثمار الفاعل الحبهوي لهذا السياق المحفز، لإنتاج تجربة عملية تشتغل بمنطق براكماتي يتنصر للأمازيغية على مستوى أجرأة الإلتزامات الدستورية والقانونية للدولة ذات الصلة؟ بمعنى أدق، ما مقابل استثمار الدولة للتقابلات المواقفية بينها وبين الحركة الامازيغية على مستوى أجرأة وتفعيل الفصل الخامس من الدستور على علاته؟
أين المشكل؟
لا مراء، أن كل فاعل سياسي اصلاحي يؤمن بأن السياسة هي حقل التقاطعات، وحقل الممكن لتحقيق الندرة. وعلى هذا الأساس، فإن المنطلقات النظرية والفكرية وحتى السياسية لتجارب المشاركة المؤسساتية لمكونات عن الحركة الأمازيغية، تبقى مقنعة بالمنطق النظري البراكماتي، خاصة لدى ذوي التوجهات التي تؤمن بتراكم المكتسبات، وأن معركة التفعيل المنصف لمقتضيات القانون التنظيمي المتعلق بالأمازيغية هي من صميم المعارك التي وجدت الحركة الأمازيغية في اطار تطورها الكمي والكيفي لخوضها، كما أن أن هذا التوجه يوجد في صميم استراتيجية اشتغال المؤمنين بمنهجية العمل بجناحين، جناح العمل الجماهيري والتعبوي، الى جانب جناح العمل الرسمي من داخل المؤسسات، في اطار التكامل والاستثمار المشترك للفرص السياسية، بحيث أن كل مشروع سياسي ناجح ومنتج يقتضي ملء كل الواجهات والترافع على كل المستويات، انطلاقا من ثابت أن حقل السياسة هو مجال لا يقبل الفراغ.
قلت، بأن الدوافع والبواعث النظرية لمشروع المشاركة السياسية المباشرة لمختلف المبادرة المحسوبة على الحركة الامازيغية تبقى في اعتقادي صحية ومقنعة، بالنظر الى طبيعة التحديات المطروحة على مستوى جوانب القضية الأمازيغية، وأقصد هنا الملفات التدبيرية المتعلقة بمجالات تدخل السلطة التنظيمية للحكومة في قطاعات التعليم والادارة والقضاء والاعلام غيرها، والتي تفرض على الفاعل الأمازيغي خوض صراع التدافع حولها ضد جيوب المقاومة تحت-دولتية التي لا زالت تمتح من مرجعية “الحركة الوطنية” ومن منطوق اللطيف المشؤوم. فهل تساير الخطوات العملية لمشروع المشاركة السياسية المباشرة منطلقاتها النظرية؟
باستقراء مسار تجربة جبهة العمل السياسي الأمازيغي، حتى وإن سجلنا في بدأ محاولة التقييم، جرأة الفاعلين الذين أسسوا لهذه التجربة، في طرح أفكارهم وتصوراتهم في سياق إتسم ببياض المبادرات ذات الطابع الأمازيغي، إلا أن هذا لن يمنع من إبداء بعض الملاحظات في صيغة انتقادات تتغيى استشراف افاق ومستقبل الحركة الأمازيغية وبالخصوص في مستويات اشتغالها النسقية.
إن أولى الملاحظات التي تستوقف الدارس لمسار هذه التجربة، هو اختزال العمل السياسي في بعدٍ إنتخابي ضيق، وهو المنهج الذي أقحم المشروع في مجال يستحيل فيه مجاراة الأعيان وذوي “الباݣاج” المالي، مهما بلغت قوة خطاب ومشروع الوافدين الجدد، فحقل الانتخابات ظل ولا يزال مجالا تتحكم فيه معطيات سوسيولوجية وسولوكية تخضع لمنطق الأرقام والولاءات الانتفاعية، بعيدا عن بُرجَوية النخب وخطاباتها.
ثاني الملاحظات، هي الارتباك وسوء التقدير السياسي على مستوى اصطفافات “الجبهويون” داخل الأحزاب، بحيث افرزت المفاوضات السياسية انتماء جزء من “الجبهة” الى حزب التحمع الوطني للأحرار، فيما توجه آخرون صوب حزب الحركة الشعبية، فيما اختار آخرون المنطقة الرمادية كتعبير عن رفض الخيارين معا.
فإذا كان هذا “الانشطار” قد شتت جهود الفعاليات الجبهوية وتكامل مجهوداتها، فإنها ايضا أنتجت ظاهرة غريبة تمظهرت مع الخريطة الانتخابية لـ 08 شتنبر، بحيث أوجدت “جبهة” مناصرة للحكومة، و أخرى اصطفت مع حزب يوجد في صف المعارضة.
هذا الارتباك في تقدير التموقعات، وغياب وحدة الاصطفافات، أعدم كل امكانية لتأثير “الجبهة” داخل هياكل الأحزاب السياسية التي انضوت تحت لوائها، وكبل من إمكانيتها في الوصول الى مفاصل وقنوات انتاج القرار الحزبي، وبالنتيجة غياب الحد الممكن من ملفات القضية الأمازيغية داخل أجندة هذه الأحزاب.
على المستوى التنظيمي، لا يخفى على المتتبعين للشأن السياسي، خفوت الأداء التنظيمي لجبهة العمل الأمازيغي بعد محطة الـ08 من شتنبر، مع ما يسجل من توجس اعضائها من تقييم مسارها وتنوير الرأي العام بحصيلة عملها والاكراهات التي اعترضتها، من أجل استشراف فعالية وجدوى العمل السياسي المباشر للحركة الأمازيغية مستقبلا.
اسماعيل الصديقي