رأي: من “الحمق” إلى الفهم: حين يتحوّل المرض النفسي إلى مرآة لإنسانيتنا في الحسيمة

admin3 ساعات agoLast Update :
رأي: من “الحمق” إلى الفهم: حين يتحوّل المرض النفسي إلى مرآة لإنسانيتنا في الحسيمة

في شوارع الحسيمة، يمكن لأيّ عابر أن يرى وجوهاً شاردة، وأشخاصاً يتحدثون مع أنفسهم أو يسيرون بلا وجهة.
يصفهم الناس بـ”الحمقى” أو “المساطي”، كلمات تختصر معاناة إنسانية عميقة تخفي أمراضاً نفسية لم تُفهم بعد بالشكل الصحيح.
“الأحمق”… كلمة لا وجود لها في علم النفس
في علم النفس، لا وجود لكلمة “الأحمق”. إنها تعبير شعبي غير علمي يُستخدم لوصف من لا يفهمه الناس أو يختلف عنهم في سلوكه.
في الواقع، كثير من هؤلاء الأشخاص يعانون من اضطرابات عقلية حقيقية، أبرزها الفصام (السكيزوفرينيا)، وهو اضطراب يفقد فيه الإنسان مؤقتاً اتصاله بالواقع.
قد يسمع المريض أصواتاً غير موجودة، أو يرى أشياء لا يراها الآخرون، أو يعيش أفكاراً غريبة يصعب عليه التمييز بينها وبين الواقع.
لكن رغم خطورة الأعراض، فإن الفصام قابل للعلاج بالأدوية والمتابعة النفسية، بشرط وجود دعم أسري ومجتمعي حقيقي.
الفصام: مرض مزمن لا يعني الجنون
الفصام ليس “انقساماً في الشخصية” كما يُعتقد، بل هو اضطراب في التفكير والمشاعر والإدراك.
يظهر عادة في مرحلة الشباب، بين 16 و30 سنة، وغالباً ما يتأثر بعوامل وراثية وبيئية ونفسية متداخلة.
أعراضه تختلف من شخص لآخر، لكنها تشمل:
• هلوسات سمعية أو بصرية،
• أفكار وهمية كالاعتقاد بأن الناس يراقبونه،
• انسحاب اجتماعي وبرود عاطفي،
• صعوبة في التركيز وتنظيم الأفكار.
ورغم أن الفصام يبدو مخيفاً، فهو مرض مزمن قابل للاستقرار تماماً مثل السكري أو الضغط الدموي.
المريض فقط يحتاج إلى تناول دوائه بانتظام مدى الحياة، لأن التوقف المفاجئ يؤدي غالباً إلى الانتكاس.
لكن هنا تكمن المفارقة:
لماذا لا نعيب على مريض السكري أخذه للأنسولين، بينما ننتقد من يتناول دواءً للعقل؟
الدماغ عضو من الجسد، وإذا اختل توازنه يحتاج إلى علاج دائم، لا إلى وصم أو خجل.
شهادة من قلب الحسيمة
في أحد أحياء المدينة القديمة، تجلس السيدة فاطمة (اسم مستعار) أمام باب منزلها الصغير، تتحدث عن ابنها الذي يعاني من الفصام منذ سبع سنوات.
تقول بحزن وصدق:
“في البداية، ظننا أنه مسحور… كان يتحدث وحده ويقول إن الناس تراقبه. ذهبنا إلى الفقيه، لكن حالته ساءت أكثر. بعد سنة، نصحنا جار بأن نذهب إلى الطبيب النفسي. هناك فهمنا أنه مريض يحتاج إلى دواء، لا إلى رقية.”
وتضيف بابتسامة خافتة:
“اليوم حاله أفضل بكثير. يأخذ دواءه بانتظام، وأنا أراقبه بنفسي. لكن الناس ما زالوا ينادونه بـ‘المسطي’، وهذا يؤلمني أكثر من المرض نفسه.”
تختم فاطمة كلامها بنبرة فيها رجاء:
“حين يأخذ دواءه، يعود كما كان: يضحك، يساعدني، ويتحدث بهدوء. نحن فقط نحتاج من الناس أن يفهموا أنه مريض… لا مجنون.”
هذه الكلمات البسيطة تلخّص معاناة مئات الأسر في الحسيمة، العالقة بين الخوف من نظرة الناس، والرغبة في العلاج، وحاجتها إلى دعم لا حكم.
علاج طويل… ويد دافئة
العلاج الدوائي يبقى أساسياً، لكنه يحتاج إلى متابعة من الأسرة.
الدواء ينظّم التفكير، يخفف الهلوسات، ويمنح المريض استقراراً يسمح له بالعيش بشكل طبيعي.
كما أن العلاج النفسي الأسري والسلوكي المعرفي يساعد المريض وأهله على فهم المرض والتعامل معه بذكاء وهدوء.
لكن نجاح العلاج لا يعتمد فقط على الطبيب، بل على نظرة المجتمع.
فالكلمة الجارحة قد تهدم شهوراً من التحسن، بينما كلمة دعم واحدة يمكن أن تغيّر حياة إنسان.
إمكانيات محدودة ووعي في طريقه للنضوج
في الحسيمة، كما في مدن مغربية كثيرة، تظل الخدمات النفسية محدودة جداً.
فالمستشفى الإقليمي يضم طبيباً نفسياً واحداً فقط، والمرضى القادمون من القرى والجبال يواجهون صعوبات في التنقل أو توفير الدواء.
لكن رغم ذلك، بدأت تظهر بوادر وعي جديدة: جمعيات محلية، متطوعون، وأطباء شباب ينظمون لقاءات توعوية في المدارس والمراكز الاجتماعية.
كما بدأت وسائل التواصل الاجتماعي تلعب دوراً مهماً في كسر الصمت حول الصحة النفسية، وإعادة تعريف “الجنون” كمفهوم إنساني لا كوصمة.
نحو مجتمع أكثر فهماً وإنسانية
الذين نراهم في شوارع الحسيمة ليسوا “حمقى”، بل أشخاص يعانون من اضطرابات نفسية يمكن علاجها.
المرض النفسي ليس ضعفاً، بل تجربة مؤلمة تتطلب رعاية، لا شفقة.
ربما لا يستطيع الفرد وحده تغيير الواقع، لكن الوعي الجماعي قادر على تحويل الخوف إلى تفهّم، والوصم إلى دعم، والصمت إلى حوار مفتوح عن النفس والإنسان.
في النهاية، المريض النفسي لا يحتاج إلى نظرة شفقة…
بل إلى يدٍ تُمسكه برفق، لتعيد إليه توازنه وإنسانيته.
✍️ إعداد: عبد اللطيف اليونسي
أخصائي نفسي وباحث في علم النفس – الحسيمة، المغرب.

Leave a Comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


Comments Rules :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

Breaking News