يبدو من المستحيل توقيف تدفق الهجرة الدولية العابرة للحدود، لأنها تشكل مظهرا من مظاهر العولمة، وتتزايد يوما بعد يوم خصوصا عند الريفيين، هروبا من شبح البطالة وبحثا عن عيش كريم في الضفة الشمالية. هذا الفعل الهجروي يؤدي إلى تغير المعالم الاقتصادية والثقافية والاجتماعية، ويرسم آفاقا جديدة للواقع المجتمعي، نتيجة التفاعل والتبادل بين المجتمع الأصلي والمجتمع المستقبل. مما يجعل منه إشكالية تستوجب تحليلا سوسيولوجيا دقيقا.
غالبا ما يرتبط مفهوم الهجرة بالغربة والاغتراب، فتغيير الأبعاد القيمية والثقافية والهوياتية للمهاجر، تجعله يعيش الاستلاب فلا هو يحصن هويته وثقافته ولا هو يندمج كليا في السياق المجتمعي الجديد.
وقد بدأنا نلحظ إقبال الجيل الجديد من المهاجرين على الحضارة الغربية، ونزوحا صوب الانسلاخ التدريجي من الثقافة الأم ومن عادات المجتمع الريفي، فأصبح يهدد بتفكك ثقافي قد يؤدي إلى طمس معالم الهوية والانغماس في الاغتراب التام.
إننا أمام حرب الثقافات أو صدام الحضارات حسب تعبير صامويل هنتنجتون[1] Samuel Huntington، ويؤكد ماكس فيبرMax weber أن مختلف القيم المتواجدة داخل الجماعة الإنسانية يوجد بينها صراعات مختلفة، وقد أخذ هذه الفكرة من خلال دولة الطبيعة عند هوبز[2]. فالتحدي كبير يتطلب مجهودا وتدخلا من أجل إنقاذ المهاجر المغربي الريفي من الانفصام الهوياتي والثقافي المقلق، بعد أن ظهر جيل لا يعرف عن عاداته وتقاليده سوى النزر.
في هذا السياق سنتطرق إلى موقع الشعر الأمازيغي “إزران”، عند المهاجر المغربي الريفي في المجتمع الأوروبي، ضمن هذا الصراع، وذلك من خلال المحاور التالية:
- التعريف ب «إزران” وأنواعها.
- دور “إزران” في التخفيف من الشعور بالاغتراب لدى المهاجر المغربي الريفي.
- واقع “إزران” في بلاد المهجر(أوروبا)، من خلال تحليل نتائج استبيان موجه للمهاجرين الريفيين.
لكن قبل ذلك لابد من التذكير بطبيعة المجتمع الريفي قبل الهجرة، لنتمكن من المقارنة مع التحولات التي طرأت في بلاد المهجر، من حيث الاهتمامات والعادات والتقاليد، لفهم ثنائية الـتأثير والتأثر بثقافة وحضارة المجتمع الغربي.
- طبيعة المجتمع الريفي:
تتميز الثقافة الشعبية الريفية بالغنى والتنوع من حيث العادات والتقاليد والطقوس المتوارثة جيلا بعد جيل أو المستمدة من تعاليم الدين الإسلامي بحكم تدين الريفيين، وما يميز المجتمع الريفي أيضا هو الحفاظ على اللسان الأمازيغي(الريفية) كلغة للتواصل بينهم، بينما تشكل العربية لغة ثانية لارتباطها بأداء الشعائر الدينية.
يطغى على المجتمع الريفي الطابع المحافظ المتشبث بالعادات والتقاليد حد التقديس أحيانا، وهذا ما يفسر ظاهرة المنازل المتناثرة في الجبال والسفوح والمحاطة بنبات الصبار، لأن صون حرمة المنزل هو صون لكرامة المرأة التي تحظى بمكانة مقدسة في المجتمع الأمازيغي والريفي بالخصوص.
بالمقابل نجد مفهوم القبيلة والانصهار في الجماعة (جماعث) من أولويات ساكنة الريف، فالحياة الريفية المحلية تتميز بقوة الأواصر والوحدة والرباط، ويفسر هذه الوحدة مفهوم الذوبان في الجماعة والعلاقات الدمجية للدكتور مصطفى حجازي في كتابه التخلف الاجتماعي، مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور[3].
إن الانطباع الذي يأخذه أي زائر أو مخالط للريفي هو حدة طباعه وعناده “تغنانت”، لذلك نجد العبارة المشهورة ” ثوري، ثوري” بمعنى” صاعدة صاعدة” بالدارجة المغربية” طالعة طالعة” والتي تعني الوفاء بالعهد، إن ما يفسر حدة الطباع والتعنت الذي يتميز به الإنسان الريفي، هو الإحساس بالظلم والقهر من جراء ما يعانيه من قساوة ظروف الحياة وصعوبة جغرافية المنطقة التي تتميز بالطابع الجبلي[4].
ورغم كل ما ذكرناه من سمات تطبع المجتمع الريفي بصفة عامة والإنسان الورياغلي بصفة خاصة إلا أننا نجد في الكثير من الحكايات الشعبية المحلية؛ “تقسيسين” وأناشيد “إزران”؛ الحديث عن المشاعر والأحاسيس والبوح بالحب والعشق…
فقد كانت “إزران” أقوى وسيلة للتعبير عن الحالة النفسية التي تختلج صدر الرجل والمرأة من مشاعر وأحاسيس، فكانت عبارة عن رسائل مشفرة لا يفهم رموزها إلا المقصود منها وبها.
- ماهي إزران؟ وماهي أنواعها:
تنتمي إزران إلى النمط الشعري الشفهي غير المقروء؛ لأن أغلب الانتاجات الأدبية الأمازيغية الريفية هي شفهية؛ توظف الرمزية، وتحمل تواصلا ورسائل عبر الصوت، مفرده “إزري” يتكون من بيتين شعريين متناغمين بقافية موحدة ولازمة “أيا رلا بويا”، وتعتبر “إزران” سمة ثقافية للمجتمع الريفي وتغنى بإيقاعات مختلفة في المناسبات خصوصا من طرف الفتيات اللواتي يتفنن في تأليف وتركيب الأبيات بشكل عفوي فيرسلن إشارات سرية يلتقطها الشباب، فتزيد الفتاة حماسة لتبدع أكثر.
تتميز إزران بدلالات وألفاظ تعبر عن الحنين والحب والندم والحسرة والحزن والألم… وغيرها من المشاعر والأحاسيس التي تمتح من الحالة السيكولوجية للملقي.
يذكر جمال أبرنوص في كتابه (الشعر الأمازيغي الريفي التقليدي: بحث في النص والسياق أنواع من الشعر “إزري” وهي[5]:
- إزري أقوضاض: القصير يتكن من بيتين، أي أربعة اشطر.
- الإزري الإثنا عشري: هو منظوم مغنى يتكون من بيتين مقفيين، ينقسم كل واحد منهما إلى شطرين، يخضع أيقاعيا للميزان الإثني عشري خضوعا مطلقا. تتغنى به النساء في الغالب الأعم، وتدور مجمل مواضيعه حول العشق وعذابه.
- إيزري إيموذن: المفتول، مشتق من السابق لكنه يتميز بالمسافة القولية الأطول، مكون من ثلاثة أبيات مقفاة بتقفية موحدة.
مؤخرا بدانا نلحظ تحويرا في تركيبة “إزران” لتصبح سريعة وبسيطة مسايرة للعصر ذات إيقاع خفيف، وهذا طبيعي جدا بسبب التأثر بالثقافة الغربية والموسيقى ذات الإيقاع السريع والأبيات الشعرية ذات المعنى الصريح، بينما كان “إزري” التقليدي في الماضي محملا بإشارات ومشبعا بدلالات من استعارة وتشبيه ومجاز وكناية…، ولا يفهم مغزاه إلا العارف بكنه الثقافة الريفية والخبير بطبيعة المجتمع الريفي.
فمثلا عندما ينشد الشاب البيت التالي:
أذحنجاث ننوقارث أثني يكثا أمزير||||انتمعشار سجيرث أنتمسوضا سوزير.
بالعربية: أيتها الشابة التي صاغها الصائغ فضة|||| دعينا نتعاشر ليلا ونفترق نهارا.
هذا تعبير صريح عن إعجابه بالفتاة التي وصفها بالفضة وفيها دعوة (بشكل غير معلن) إلى الارتباط …
- دور إزران في التخفيف من الشعور بالاغتراب لدى المهاجر المغربي.
يهاجر الريفي محملا بثقافته المتوارثة ومطبعا بسمات مجتمعه خصوصا المنتوج الثقافي الشفهي، ومنها “إزران”، التي تعتبر السمة الأبرز للأدب الريفي والتي تميزه عن غيره من أمازيغ المغرب، لكن البحث عن الاندماج في المجتمع الجديد وتأمين ظروف لائقة تحفظ كرامته كإنسان، جعلته يغير نمط العيش والتفكير، وبالتالي التنازل عن الكثير من القيم المجتمعية المتوارثة والمكتسبة من المحيط الريفي، بالمقابل نجده يبحث دائما عن ذلك الشيء المفقود في حياته وهو الحنين للوطن وللأرض “لبلاد”، لأن الهجرة كما يصفها الدكتور عبد الرحيم العطري[6] هي مغادرة فيزيقية وليست هوياتية أو روحية، فتراه يبحث في القنوات التلفزية عن قناة مغربية أو أمازيغية، يبحث في المحلات التجارية والأسواق عن المنتوج المغربي، يسأل عن أصل المصلين في المسجد باحثا عن أبناء قبيلته… تراه دائما متوجسا باحثا عن شيئ يذكره بأصله، يبحث عن “ريحة لبلاد ” كما يسميها سيدي عبد الله بوصوف[7]، فتجده يحضر المناسبات العائلية والدينية والوطنية التي يجتمع فيها أبناء بلده، ويساهم في إحياء الطقوس المناسباتية، من زفاف وختان والاحتفال بالسنة الأمازيغية، ويساهم في بناء المساجد وتدبير شؤون المراكز الإسلامية…
لكن يبقى سؤال الهوية مؤرقا خصوصا لدى الجيلين الثاني والثالث من المهاجرين المغاربة الريفيين، سؤال يجعلهم يعيدون التفكير في هويتهم الثقافية التي ما فتئت تتوارى شيئا فشيئا لتحل محلها ثقافة الغرب، ويتجلى هذا في العديد من مظاهر الحياة اليومية والطقوس الاعتيادية كاللباس والأكل والاحتفال وتأثيث المنازل… لأن الحياة الجديدة والمعاصرة تفرض الاندماج والتكيف مع عادات البلد المضيف.
غير أنه لا يمكن لوم المهاجر لأنه لم يفرش حصيرة منسوجة من الدوم(أري بالريفية)، أو لأنه لم يستعمل اللامبا \لاباكوم، أو لم يطبخ الخبز في الفران التقليدي(تينورت)، أو لم يرتدي جلبابا من الصوف…، فنشكك في مغربيته أو أصله الريفي !إلا أننا نعاتبه على التفريط في بعص العادات التي تعتبر كمحددات لهويته الأمازيغية الريفية مثل اللسان الريفي وعادات الطبخ المرتبطة بعيد المولد النبوي وطقوس ليلة الحناء والشعر الريفي، “فإزران” مثلا هو نوع من الشعر الأمازيغي خاص بالمجتمع الريفي إذ يمكن اعتباره محددا للهوية الريفية.
وقد ألف الريفيون الكثير من الأبيات الشعرية حول الغربة والهجرة والحنين للوطن وللحبيبة، شعر أنتج على السليقة من طرف شابات ونساء، فيه هجاء ومدح للمهاجر قوي في معانيه، وهذه بعض الأمثلة المتداولة في المجتمع الريفي:
- Dastha’aqad orino amis nadvharino i’aqan***tajjid akham inak thawart labda thaqqan
- أحرقت قلبي يا ابن دواري المغترب *** هجرت غرفتك بابها دائما مغلق
- Aya aliman odam yaguin chan *** igamt ogharbo ndikssin imas ‘an
- يا ألمانيا من بناك وجعل لك القيمة *** سواعد الفقراء الذين أقلتهم الباخرة
- Adamorth narkharij ara’do nallif **** dawidas rbar tajjit oyamrikh
- يا بلاد الغربة يا عدوة حبيبي *** سلبت عقله ولم يفكر في الزواج
- Wami rayogour amsafadgh akidas *** ihawayazd omatta isad’aq orinas
- عندما هم بالرحيل ودعته \\\\ سقطت دمعة أحرقت قلبه
- واقع “إزران” في بلاد المهجر (أوروبا)، من خلال تحليل نتائج استبيان موجه للمهاجرين الريفيين.
في كثير من الأحيان تحتاج الجماعات البشرية إلى منبهات تعيد إليها التفكير في رموزها القديمة، والحنين العاطفي إلى الماضي[8]Sentimental Nostalgia، مؤخرا برزت أصوات من المهاجرين الريفيين في المجتمعات الأوروبية، تنادي بحماية الموروث الثقافي الريفي، ومنها “إزران”، خصوصا على مواقع التواصل الاجتماعي، عبر إنشاء صفحات خاصة بإنشاد “إزران”، وبث أمسيات وسهرات وحتى لقطات من الأعراس المقامة في بلاد المهجر تظهر الكبار والصغار يرقصون على إيقاع “أيا رالا بويا”.
سنحاول في هذا الجزء تحليل استبيان وجه للمهاجرين الريفيين القاطنين بالدول الأوروبية، من فئات عمرية مختلفة، يتضمن مجموعة من الأسئلة وهي:
- هل يمكن اعتبار الموروث الثقافي “إزران” محددا للهوية الثقافية الأمازيغية الريفية؟
- هل لازالت “إزران” تحظى بنفس الاهتمام من طرف الريفيين في بلاد المهجر؟
- هل هناك محاولات لإعادة إحياء هذا الموروث الثقافي والتعريف به في المجتمع الأوروبي؟
وجاءت إجابات المستجوبين كما يلي:
عبر% 100 عن اعتبارهم ” إزران ” موروثا ثقافيا ريفيا، كما أجاب %76,9 عن كون إزران ” محددا للهوية الريفية، وفي معرض جوابهم حول سؤال: هل تذكرك إزران بالأصل أي “ريحة لبلاد”؟ أجاب % 92,3 بنعم، وأكد كلهم حضور مناسبات عائلية وأمسيات ثقافية ألقيت فيها “إزران”، وشكل موضوع الأرض والأم الأكثر اهتماما وأهمية لدى المستجوبين بنسبة % 76,9، يليه موضوع الثورة والمقاومة بنسبة % 30,8، وموضوع الحب بنسبة % 23,1.
يتفق جل المستجوبين على أن إزران تروج لمجموعة من القيم وتطورها، منها قيم الحب والحرية والتسامح وفخر الانتماء والاعتزاز بالأصل. ومن أجل التعريف بهذا الموروث الثقافي يقترحون تنظيم ندوات وأمسيات وتدريس الشعر الريفي ضمن الثقافة المغربية واستغلال الإعلام ووسائط التواصل الاجتماعي في ذلك.
يؤكد المستجوبون على أن محاولات نقل هذا الموروث الثقافي للجيلين الثالث والرابع تكاد تكون منعدمة بسبب تأثير ثقافة الغرب واندماج أبناء المهاجرين في المجتمعات الأوروبية.
خـــــــــاتـــــمـــــــة:
رغم توالي دعوات العديد من الجمعيات المدنية والحقوقية والثقافية المهتمة بالشأن الثقافي وحماية التراث والموروث المادي واللامادي، ومجلس الجالية عن طريق الإعلام الرقمي كمثال: قناة أواصر tv، من أجل التعريف بالتقاليد والعادات المغربية والأمازيغية الريفية في المجتمعات الأوروبية، عبر تنظيم لقاءات وندوات ومعارض، إلا أنها تبقى غير كافية لمواجهة ظاهرة الانغماس والاستغراق في الحضارة الغربية الحاضنة للمهاجر. مما يتطلب منا كل من موقعه رص الصفوف من أجل حماية موروثنا الثقافي “إزران” من الاندثار عند المهاجرين الريفيين، عن طريق إدراجه في مكون الثقافة المغربية وتدريسه للجالية خصوصا الأجيال الناشئة، لأنه يحمل تاريخ وحضارة الهوية الأمازيغية الريفية.
[1] صامويل هنتنجتون،1996، مؤلف كتاب صدام الحضارات، إعادة صنع النظام العالمي.
[2]Jean-marie vincent,Max weberou la démocratie inavhevée,collection le temps des mots(paris :Ed,du félin,1998),P526 .
[3] د.مصطفى حجازي،2005، التخلف الاجتماعي: مدخل إلى سيكولوجية الانسالان المقهور، ص: 113.
[4] دافيد مونتكومري هارت، أيت ورياغل قبيلة من الريف المغربي، دراسة إثنوغرافية وتاريخية، ترجمة محمد أونيا وآخرون 2016، ج1، ص 838، بتصرف.
[5]جمال أبرنوص،2017، الشعر الأمازيغي الريفي التقليدي: بحث في النص والسياق، ص: 53-55.
[6] د. عبد الرحيم العطري، كاتب وباحث مغربي في علم الاجتماع.
[7] د. عبد الله بوصوف؛ أمين عام مجلس الجالية بالخارج، 2023، تمغربيت محددات الهوية وممكنات القوة الناعمة.
[8] رياض زكي قاسم وآخرون، 2012، الهوية وقضاياها في الوعي العربي المعاصر، ص538.
المقالة بقلم : وردية السكاكي طالبة باحثة