تفاعلا مع ما يثار على “متحف الريف”، ارتأينا في جمعية ذاكرة الريف إصدار هذا التقرير، الذي يتضمن معطيات عن فكرة إقامة متحف بالحسيمة والتطورات التي شهدها هذا الملف منذ الشروع في تهيئة البناية التي قيل أنها ستحتضن المتحف إلى يومنا هذا.
تجدر الإشارة في البداية أن البناية كانت في السابق مقرا للحاكم العسكري خلال فترة الاستعمار الإسباني، حيث استمرت كذلك حتى سنة 1957، لتتحول إلى مقر عمالة إقليم الحسيمة، ثم إلى باشوية الحسيمة بعد أن تم بناء مقر جديد للعمالة عند مدخل المدينة أواخر السبعينيات، وبعد الزلزال العنيف الذي ضرب منطقة الحسيمة يوم 24 فبراير 2004، ستتأثر البناية بشكل كبير وتصبح غير صالحة للاستعمال الإداري، مما دفع إلى إخلائها مع ترك بعض الأرشيف والمستلزمات داخلها.
في سنة 2006 اقترح المجلس الجماعي لبلدية الحسيمة تحويل البناية إلى متحف، لكنه لم يُفَعّْل الاقتراح، وانتظر حتى أصدرت هيئة الإنصاف والمصالحة تقريرها وتوصياتها في مجال الذاكرة والتاريخ المتعلقة بالحفاظ على الأرشيف وتشجيع البحث في التاريخ والمحافظة على الذاكرة، والتي أكدت من بين ما أكدت عليه، على ضرورة ترميم منزل محمد بن عبد الكريم الخطابي بأجدير (والمقصود هو مقر قيادة المقاومة الريفية بأجدير)، دون تحديد طبيعة الترميم ولا الوظيفة التي ستقوم بها البناية بعد ترميمها، وخصص لذلك مبلغا ماليا قدره مليار سنتيم، ليس فقط لترميم البناية بأجدير ولكن لترميم معتقلات سرية سابقة، وفي حينه احتجت جمعية ذاكرة الريف ومعها مجموعة من الأساتذة الباحثين والمهتمين على إدراج منزل عبد الكريم الخطابي بأجدير ضمن المعتقلات السرية.
وعوض تنفيذ ما أوصت به الهيئة، عمل المجلس الوطني لحقوق الإنسان على سحب الملف من البلدية، وأصبح هو المسؤول المباشر على إقامة المتحف في البناية المذكورة أعلاه، أي بناية الباشوية، المطلة على الساحة المجاورة للمعهد الإسباني والموازية لشارع طارق بن زياد، ولتحقيق ذلك أبرم سنة 2009 اتفاقية شراكة مع المجلس الجهوي لجهة تازة الحسيمة تاونات والمجلس الجماعي للحسيمة، وتوصل المجلس الوطني لحقوق الإنسان بمبلغين ماليين مهمين، الأول سنة 2009 وقدره 20,5 مليون درهم في إطار برنامج حفظ الذاكرة والتاريخ، والثاني من الاتحاد الأوروبي سنة 2010 وقدره 8 ملايين أورو (تقربا 87 مليون درهم).
خلال شهر يوليوز 2011 نظمت بالحسيمة ندوة دولية في موضوع: “التراث الثقافي بالريف: أية تحافة؟”، شارك فيها العديد من الباحثين المغاربة والأجانب، وحضرها ممثلون عن السلطات الجهوية والمحلية والإدارات ومجموعة من الفاعلين والمهتمين… وافتتحت الندوة أشغالها بتلاوة الرسالة التي وجهها الملك محمد السادس إلى المشاركين، والتي دعا فيها إلى تعميم المعرفة التاريخية و حفظ الذاكرة الجماعية للمغاربة، من خلال إحداث مؤسسة متحف الريف، وأبرز في رسالته أهمية المشروع بالنسبة للجهة في كون منطقة الريف ظلت “تشكل مجالا للتواصل والتفاعل مع الفضاءات المغاربية والأورو متوسطية والمشرقية والإفريقية، مما جعلها تكتسب شخصية هوياتية متميزة، تجمع بين المقومات الثقافية المحلية، وتلك الوافدة عليها من الجهات الأخرى”.
وفي معرض كلمته أشار رئيس المجلس الوطني لحقوق الإنسان إلى أهمية رد الاعتبار للذاكرة واحترام الموروث الثقافي والانخراط الفعال في التنمية الشاملة، وأن المتحف سيكون أداة لنشر المعرفة التاريخية والتربية على المواطنة، واعتبر أن أعمال الندوة ستشكل قاعدة علمية أولية لبناء تصور للمضامين التي سيقدمها المتحف. وذكر المشاركون بأن الشركاء الحاليين لإنشاء المتحف هم المجلس الوطني لحقوق الإنسان والمجلس الجهوي لجهة تازة الحسيمة تاونات والمجلس البلدي للحسيمة ومجلس الجالية المغربية بالخارج، وعلى أنه سيتم الانفتاح مستقبلا على وزارة الثقافة والمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية ومؤسسة المتاحف والمندوبية السامية للمقاومة ووكالة تنمية الأقاليم الشمالية… ولتحقيق ذلك لابد من تشكيل لجنة علمية تضم متخصصين لوضع تصور أولي للمتحف، وتشكيل شبكة للحوار والتشارك والتشاور بالانفتاح على الجمعيات المدنية المهتمة لتتبع المشروع…
مباشرة بعد الندوة انعقدت عدة لقاءات بالناظور والحسيمة ترأسها المجلس الوطني لحقوق الإنسان ولجنة الناظور الحسيمة التابعة له، وشاركت في هاته اللقاءات بعض الفعاليات وممثلين عن جمعيات مدنية، ولم يصل إلى علمنا حتى اللحظة، خلاصات هاته اللقاءات وتوصياتها.
ابتدأت الأشغال التي همت تدعيم هيكل البناية، وتم تنقيل المقتنيات التي كانت تتواجد بها إلى مكان ما، وتم اقتلاع الزليج الرائع الذي كان يضفي على البناية رونقا جميلا، وكان من المفترض أن تنتهي هاته الأشغال أواخر سنة 2013، لكن ذلك لم يحصل، لتوقف الأشغال فجأة دون تبيان الأسباب للرأي العام، التي ظلت حتى اللحظة غامضة، وكل طرف يحاول إلقاء المسؤولية على الطرف الأخر.
في زيارة له لمنطقة الحسيمة خلال سنة 2013، للوقوف على المشاريع الممولة من قبل الاتحاد الأوروبي، أصدر سفير الاتحاد تقريرا تضمن عدم وفاء الشركاء بالالتزامات المبرمة، والنتيجة توقف الأشغال.
خلال سنة 2014 أنجز مكتب الدراسات المتحفية، دراسة للمتحف المزمع إقامته بالحسيمة مكان البناية المذكورة، اعتبر فيها أن التكلفة الإجمالية تقدر بحوالي 60 مليون درهم، مما دفع بالشركاء إلى البحث عن شركاء آخرين. وهذا ما تأتى لهم، ففي سنة 2018 قرر مجلس جهة طنجة تطوان الحسيمة إبرام اتفاقية شراكة مع م و ح إ بشأن إقامة متحف بالحسيمة، وخصص لذلك مبلغ 14 مليون درهم تسلم على ثلاث سنوات، وحذا المجلس الإقليمي للحسيمة حذوه إذ قرر في يناير 2019 إبرام اتفاقية شراكة مع م و ح إ لإحداث متحف الريف، وتقديم دعم قدره 3 ملايين درهم على ثلاث سنوات.
في سنة 2017، وجوابا على سؤال كتابي تقدمت به إحدى النائبات البرلمانيات، حول مصير المتحف، صرح وزير الثقافة بأن الأشغال ستنتهي خلال ثلاثة أشهر وأن المتحف سيفتح أبوابه قريبا. وبعد مرور سبع سنوات لا الأشغال انتهت ولا المتحف فتح أبوابه.
فما هي الإجراءات والتدابير التي قام بها المجلس الوطني لحقوق الإنسان وشركائه، لاستئناف الشغال وإخراج المتحف إلى حيز الوجود؟
الجواب نجده في الاجتماع الذي عقده الشركاء خلال فبراير 2021 والذي حضر فيه ممثلون عن وزارة الداخلية ووزارة الثقافة ومكتب الهندسة المعمارية المكلف بتنفيذ المشروع، والذي خلص إلى ضرورة استكمال أشغال تهيئة البناية وإقامة متحف الحسيمة، ومن أجل ذلك تقرر تخصيص ميزانية لإنجاز الدراسات وميزانية أخرى لأعمال التهيئة (لاحظوا أن الحديث تم عن متحف الحسيمة وليس متحف الريف كما أطلق عليه في البداية، وأنه بعد مرور 10 سنوات ما زال يتم الحديث عن الدراسات).
وفي تقرير م و ح إ لسنة 2022، تمت إثارة المتحف مجددا وتم التأكيد فيه على استمرار العمل بالاستناد على نتائج الدراسات المتحفية والسينوغرافية المنجزة لهذا الغرض.
وفي بلاغ لفرع المنظمة المغربية لحقوق الإنسان بالحسيمة، صادر في فبراير 2023، عن لقائه بعامل إقليم الحسيمة، وجوابا عن سؤال يهم المتحف، أشار البلاغ إلى أن عامل الإقليم صرح بأن الأشغال ستنطلق قريبا وأنها ستستند على تصميم جديد يروم توسعة مشروع المتحف، وأن م و ح إ سينفذ ذلك قريبا.
نحن الآن في أواخر شهر ماي 2024، ولم نلاحظ أي تقدم في الأشغال، وكل ما أنجز هو رتوشات دامت بضعة أيام، والبناية عادت خربة شبه مهجورة وملجأ للمشردين ومكانا لقضاء الحاجات البيولوجية.
إننا نعتقد أن الإرادة ما زالت غير متوفرة لإقامة متاحف تصون الذاكرة التاريخية، وأن إنشاء “متحف الريف” أو “المتحف الشبح” قد يكون مجرد حكاية مفتعلة الغرض منها استبعاد إقامة متحف حقيقي بالمكان الذي كان يحتضن المقر التاريخي لقيادة المقاومة الريفية بأجدير، خاصة وأن مجلس بلدية أجدير كان قد عبر عن استعداده لترميم هذا المقر وخصص ميزانية لهذا الغرض، وقبله كان مجلس جماعة أيت يوسف وعلي قد قرر دعم مشروع تقدمت به إحدى المؤسسات الثقافية المهتمة بالتاريخ.
إننا نؤكد على ضرورة إنشاء مركب متعدد الاختصاصات يحمل اسم الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي، مكان المقر التاريخي للمقاومة، مركب يضم متحفا بمواصفات المتاحف العالمية ومكتبة وقاعة للعروض والمعارض… وعلى فتح تحقيق في أسباب فشل إنشاء متحف الريف بالحسيمة، ومآل الملايين التي رصدت له ومصير المقتنيات التي كانت تتواجد داخل البناية بما فيها الزليج الذي تم اقتلاعه من جدرانها.
جمعية ذاكرة الريف